
الانتخابات الألمانية - تعبيرية
لطالما اعتمدت السياسة في ألمانيا، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، على اختيار قادة يتسمون بالاستقرار والبراجماتية والكفاءة، بعيداً عن الشخصيات ذات الكاريزما النارية. هذا النهج كان يعكس ثقافة التحفظ التي استمدت جذورها من التجارب التاريخية، خاصة بعد حقبة قيادة أدولف هتلر.
الانتخابات الألمانية في 23 فبراير
في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية قبل التصويت المقرر في 23 فبراير 2025، تشهد الساحة الألمانية انقساماً متزايداً. ففي جهة، يواصل اليمين المتطرف بقيادة حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) تحقيق صعود واضح في استطلاعات الرأي، بينما يجد اليسار المتشدد (Die Linke) نفسه في مواجهة تحدٍ جذب الناخبين الشباب والنساء كرد فعل على تصاعد قوة اليمين.

شخصيتان تقودان التيارين المتضادين
ويركز النقاش السياسي في البلاد على شخصيتين بارزتين:
أليس فايدل من اليمين المتطرف، عمرها 46 عاماً، وتجمع بين خلفية اقتصادية دولية – عملت سابقاً في مؤسسات مالية عالمية مثل “جولدمان ساكس” – وسلوك متزهد وملابس أنيقة، مما يمنحها صورة عالمية. ورغم كونها مثلية وتعيش في سويسرا، فإن خطابها الوطني المعادي للمهاجرين يثير الجدل ويجذب مؤيدين من الفئات التي تشعر بالقلق إزاء التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. دعمها من شخصيات دولية مثل إيلون ماسك ساهم في تعزيز مكانتها بين مؤيدي حزبها.
هايدي رايشينيك من اليسار المتشدد، عمرها 36 عاماً، برزت من منصب نائب مظلم إلى نجمة سياسية تشتهر بخطاباتها النارية في البرلمان. مع وجود وشوم رمزية – منها صورة المفكرة اليسارية روزا لوكسمبورج ونقش آخر لـ”نفرتيتي” – استطاعت جذب جمهور واسع من الشباب والنساء والفئات الأقل دخلاً، مؤيدة أجندتها التي تدعو لخفض الإيجارات وزيادة الدعم الاجتماعي.

تحذيرات فكرية ورصد للمخاطر الديمقراطية
منذ أكثر من عقد، نبه الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس في مقال نشره عام 2010 إلى مخاطر انجذاب الجمهور نحو شخصيات كاريزمية تتخطى حدود السياسات التقليدية، معتبراً ذلك تطوراً خطيراً قد يضع الديمقراطية على المحك. أكد هابرماس أن الانفصال المتزايد بين السياسيين والجمهور، خاصةً في ظل ضغوط اقتصادية عالمية، يخلق حالة من خيبة الأمل تدفع الناس نحو وعود التغيير دون حلول واقعية.
سيناريوهات تشكيل الحكومة المقبلة
تشير التحليلات إلى عدة سيناريوهات محتملة لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، منها:
تحالف الاتحاد المسيحي مع حزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر:
قد يُفضّل هذا الترتيب بناءً على فرص تجاوز حزب الاتحاد المسيحي للتحديات الاقتصادية والسياسية، رغم المخاوف بشأن قدرة ميرز على تحقيق “تغيير سياسي حقيقي”.تحالف ثلاثي يشمل الاتحاد المسيحي، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الحر (FDP):
يثير هذا السيناريو تساؤلات حول مدى الثقة في الحزب الديمقراطي الحر وخلافاته السابقة مع قضايا اقتصادية حاسمة مثل رفع “مكابح الديون”.تحالف الاتحاد المسيحي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر ككتلة متكافئة:
يمثل هذا الخيار تحدياً كبيراً، إذ سيقل وزن الحزب المسيحي داخل الائتلاف، مما يصعب تحقيق الوعود الانتخابية بخصوص السياسات الاقتصادية والمناخية.فوز ساحق للاتحاد المسيحي على حساب تحالفات أخرى:
رغم أن هذا السيناريو قد يبدو حلماً بالنسبة لبعض قادة الحزب، إلا أن تحقيقه قد يؤدي إلى اضطرابات داخلية وصعوبة في تشكيل حكومة مستقرة بسبب الرفض الداخلي لفكرة التعاون مع التيارات المتطرفة مثل AfD.
أشار محللون مثل البروفيسور جيرو نويجباور إلى أن أي تغيير في مواقف الأحزاب التقليدية قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي الألماني، مع احتمالية ظهور تحديات جديدة في ظل تداعيات سياسات الهجرة والاقتصاد والأمن.
تأثير التدخلات الدولية والتصريحات المثيرة
وسط هذه التقلبات، برزت تصريحات من شخصيات دولية مثل نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال مؤتمر ميونخ للأمن 2025، والتي أثارت موجة من الغضب بين السياسيين الألمان. هذه التصريحات، التي تناولت تهديدات الديمقراطية الأوروبية وربطها بالتحالف مع حزب “البديل من أجل ألمانيا”، زادت من حدة الانقسام داخل الساحة السياسية. كما أسهم دعم إيلون ماسك لحزب AfD في تغذية هذا الخطاب وتصعيد مشاعر القلق بين مؤيدي الأحزاب التقليدية.
مستقبل مشرق أم تحديات مصيرية؟
رغم أن كل من فايدل ورايشينيك قد لا تتبوآن مناصب عليا بعد الانتخابات، إلا أن ظهورهما يمثل تحدياً كبيراً للسيناريوهات التقليدية في تشكيل الحكومة. وفي ظل تخوفات الناخبين من الركود الاقتصادي وتزايد معاناة المواطنين من ارتفاع كلفة المعيشة، تستعد ألمانيا لدخول مرحلة جديدة قد تشكل مستقبلها السياسي والاقتصادي.